((( التسلـــيم لله ))) :
:
للطبيعة حتمية تحكمها , وللأنسان قدره . و التسليم بهذا القدر هو الفكرة النهائية العليا للإسلام .
فهل القدر موجود .. و أي شكل يتخذ ؟
دعنا ننظر في حياتنا لنرى ماذا تبقى من خططنا العزيزة على أنفسنا و ما بقي من أحلام شبابنا ! ألم نأت إلى هذا العالم بلا حول لنا ولا قوة في ذلك , ثم واجهنا تركيبتنا الشخصية , و مُنحنا قدرا من الذكاء قل او كثر , وملامح جذابه أو مُنفرة , وتركيبة بدنية رياضية أو قزمية , و نشأنا في قصر ملك أو كوخ شحاذ , في أوقات عصيبة أو زمن سلام , تحت حكم سلطان طاغية جبار أو أمير نبيل , وفي ظروف جغرافية و تاريخية لم يتم استشارتنا بشأنها !
كم هي محدودة تلك التي نسيمها إرادتنا .. وكم هو هائل وغير محدود قدرنا !
لقد وُضع الانسان في هذا العالم وقُدّر له أن يعتمد في وجوده على كثير من الحقائق التي لا يملك عليها سلطاناً . و تتأثر حياته بعوامل قريبة منه و عوامل أخرى نائية عنه أكثر مما يتخيل . في أثناء اقتحام الحلفاء لأوروبا سنه 1944 ( خلال الحرب العالمية الثانية ) حدث للحظات قليلة اضطراب شمل جميع الاتصالات اللاسلكية , و كان من الممكن أن يسبب هذا كارثة تقضي على العمليات العسكرية التي كانت قد بدأت تشق طريقها . ولم يعرف أحد سبب هذا الاضطراب إلا بعد عدة سنوات , حيث عُزي هذا الاضطراب إلى انفجار حدث في مجموعة تبعد عن كوكبنا عدة ملايين من السنوات الضوئية . ويوجد على الأرض نوع من الزلازل الفاجعة يرجع
إلى تغيرات معينة تحدث على سطح الشمس . وكلما نمت معرفتنا عن العالم تزايد إدراكنا بأننا لا يمكن أن نكون أسياد مصائرنا .
حتى مع افتراض أعظم تقدم ممكن للعلم , فإن مقدار ما سيكون تحت سيطرتنا من عوامل لا يساوي شيئا اذا ما قورن بالكم الهائل من العوامل الخارجية عن هذه السيطرة . إن حجم الانسان لا يتناسب مع حجم هذا الكون الفسيح , وعمر الانسانية كلها ليس وحدة قياس لما يجري في هذا الكون من أحداث . وهذا هو سبب ما يعتري الانسان من شعور دائم بالخطر , وما ينعكس على نفسيته من حالات
التشاؤم و التمرد و اليأس و اللامبالاة , أو التسليم لله .
إن الاسلام يجتهد في تنظيم هذا العالم عن طريق التنشئة و التعليم و القوانين التي شرعها , وهذا هو مجاله المحدود.. أما مجاله الرحيب فهو التسليم لله .
إن العدالة الفردية لا يمكن أن تكون كافية في إطار هذا الوجود المحدود . إننا قد نتبع جميع القواعد و التعاليم الاسلامية التي من شأنها أن تمنحنا السعادة في الدارين ( الدنيا و الآخرة ) , وقد نضيف إلى ذلك اتخاذ جميع الاجراءات الطبية و الاجتماعية
و الأخلاقية , بسبب التشابك الرهيب للأقدار و الرغبات و الحوادث , فإننا سنظل نُصاب في أجسامنا وفي نفوسنا بكثير من المعاناة.
فما الذي يمكن أن يُعزَي أماً فقدت ابنها الوحيد ؟ وأي سلوى ممكنة لرجل أصيب في حادثة فأصبح قعيداً معوقا ؟
لابد أن نكون على وعي بظروفنا الانسانية , فنحن منغمسون في أوضاع معينة . وقد أستطيع أن أعمل على تغيير هذا الوضع ,, ولكن تبقى هناك أوضاع لا تقبل بطبيعتها التغيير . قد تتخذ هذه الأوضاع أشكالا مختلفة وقد تنحجب عنا قوتها الغالبة , و لكن تبقى أمامنا هذه الحقائق : إنني لا مفر من أن أموت , ولا بد أن أعاني , و أن أناضل , إنني ضحية الحظ , إنني أتعثر
دون رغبة مني في مشاعر الذنب , هذه الظروف الأساسية في حياة الانسان يُطلق عليها (( الأوضاع الحدية )) .
من المؤكد أن واجب الانسان هو أن يبذل جهده لتحسين كل شئ في هذا العالم بمقدوره أن يُحسنه . و مع ذلك , فسيظل أطفال يموتون بطريقة مأساوية حتى في أكثر المجتمعات كمالاُ . و الانسان على أحسن الفروض قد يستيطع أن يقلل من كم المعاناة في هذا العالم. ومع ذلك سيبقى الظلم و الألم مستمرين , ومهما كانا محدودين , فلن يتوقفا عن أن يكونا سبباُ للتجديف و الانحراف .
التسليم لله أو التمرد - إجابتان مختلفتان للسؤال نفسه .
في التسليم لله يوجد شئ من كل حكمة إنسانية فيما عدا واحدة : تلك هي التفاؤل السطحي , فإن التسليم هو قصة المصير الانساني ولذا فإن التشاؤم نافذ إليه , لأن كل مصير هو مصير تراجيدي مأساوي إذا نحن قمنا بتحليله إلى أعمق أعماقه .