مسافة القصر في السفر الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن سلك طريقهم إلى يوم الدين .......وبعد
فقد ذهب جمهور العلماء إلى أن مسافة القصر ستة عشر فرسخا أي ما يقارب 88 كيلو مترا تقريبا استنادا إلى قول ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم .
ولكني وقفت على روايات عديدة تخالف ما ذهبوا إليه ولذا فإني أستعرض فيما يلي أقوال العلماء مع الأدلة والاعتراضات واختيار ما أميل إليه وأرجحه :
اختلف العلماء في تحديد المسافة التي تُقصَر فيها الصلاة على أقوال :
القول الأول : ستة عشر فرسخاً ( أربعة برد ) ..
وهو ما عليه جمهور العلماء مِن المالكية والشافعية والحنابلة [1]، وهو قول ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم .
واحتجوا : بحديث ابن عباس رضي الله عنهما :" يَا أَهْلَ مَكَّةَ .. لاَ تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَان " [2] .
القول الثاني : مسيرة ثلاثة أيام بسير الإبل والأقدام ..
وهو ما عليه الحنفية ، ورُوِي عن عثمان وابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهم[3].
واحتجوا : بحديث{ يَمْسَحُ الْمُقِيمُ كَمَالَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، وَالْمُسَافِرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا}[4] ،[5]
القول الثالث : ميل واحد ..
وهو مذهب الظاهرية .
واحتجوا : بقوله تعالى { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِـّنْ أَيَّامٍ أُخَر}[6]
وبقوله مسافة القصر في السفر { إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلاَة }[7] فالسفر في النصين الكريمين أتى مطلقاً ولم يُحدَّد بمسافة ، وإنما كلما يطلَق عليه السفر ، ولا يتحقق ذلك في أقل مِن ميل [8] .
كما احتجوا : بقول ابن عمر رضي الله عنهما :" لَوْ خَرَجْتُ مِيلاً لَقَصَرْتُ الصَّلاَة "[9].
وأرى أن حُجج الأقوال الثلاثة لا تقوى لِترجيح واحد منهم عندي :
أمّا القول الأول ، وهو ما عليه الجمهور ، والمحدِّد مسافة القصر بستة عشر فرسخاً ، والفرسخ ثلاثة أميال ، والميل 1848 متراً ، والفرسخ 5544 متراً ، ومجموع الستةعشر فرسخاً اثنان وأربعون ميلاً ، وبذا تكون مسافة القصر عند الجمهور بالمقاييس المعاصرة 16 × 5544 = 88,704 كم[10].
وسند الجمهور ـ وهو قول ابن عباس ، وما رُوي عن ابن عمر ـ فيه نظر ؛ لِما يلي :
منها على سبيل المثال :
ما رواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما :" الْقَصْرُ إِلَى عُسْفَانَ وَهِيَ اثْنَانِ وَثَلاَثُونَ مِيلا " .
وروي عنه ـ أيضاً ـ قوله :" يُقْصَرُ فِي يَوْمٍ ، وَلاَ يُقْصَرُ فِيمَا دُونَه " .
وما رواه سالم عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قصر إلى ثلاثين ميلاً .
وروي عنه ـ أيضاً ـ أنه يقصر في مسيرة عشرة فراسخ .
منها على سبيل المثال:
ما رُوي أن عليّاً رضي الله عنه خرج مِن قصر بالكوفة إلى النخيلة فصلى بها الظهر ركعتين والعصر ركعتين ، ثم رجع مِن يومه وقال :" أَرَدْتُ أَنْ أُعَلِّمَكُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ مسافة القصر في السفر " .
وما رواه عمير مولى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه خرج مع عبد الله ابن مسعود وهو رديفه على بغلة له مسيرةَ أربعة فراسخ ، فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين .
وما رواه أبو داود أن دحية بن خليفة الكلبي أَفطَر في مسير له مِن الفسطاط إلى قرية على ثلاثة أميال منها [11].
[12].
وأمّا القول الثاني المحدِّد مسافة القصر بمسير ثلاثة أيام ـ وهو ما عليه الحنفية ـ فإن الحديث الذي احتجوا به لا ينهض دليلاً لِمدَّعاهم ، وإنما حدّد مدة المسح للمسافر بثلاثة أيام ولياليها ، ولا وجه لقياس القصر على المسح لأنه مخالِف لِما ثبت في السّنّة مِن قصر دون ذلك[13]..
وكذلك قياسهم القصر على مدة سفر المرأة المنهِي عنه ، وفيه يقول الشوكاني :" وأمّا نهي المرأة عن أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم فغاية ما فيه إطلاق اسم السفر على مسيرة ثلاثة أيام ، وهو غير منافٍ للقصر فيما دونها ، وكذلك نهيها عن سفر اليوم بدون محرم " [14] ا.هـ .
وأمّا القول الثالث المحدِّد مسافة القصر بميل ــ وهو ما عليه الظاهرية ـ فهو قول تنقصه الحجة ، وحجتهم : أنه أقل ما يطلَق عليه اسم السفر ، ثم علل ابن حزم :" إذ لم نجد عربيّاً ولا شريعيّاً عالِماً أَوقَعَ على أقل منه اسم سفر ، وهذا برهان صحيح "[15] ا.هـ .
وإني لست مع ابن حزم في صحة برهانه ؛ لأن نفي إيقاع السفر في عصره ـ كما تَخيل ـ على أقل مِن ميل غير مسَلَّم عندنا ، بل لا بد مِن سند شرعي يوضح هذا الإطلاق الذي استندوا إليه في لفظ السفر المرخِّص للقصر والفطر في الكتاب والسّنّة ، وإلا لكان للنبي مسافة القصر في السفر أن يقصر عندما يذهب إلى قباء ، وبينها وبين المدينة أكثر مِن ميل .
وأمّا ما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما مِن قوله :" لَوْ خَرَجْتُ مِيلاً لَقَصَرْتُ الصَّلاَة " فهو مردود بالروايات السابقة عنه التي تحدد مسافة القصر بأكثر مِن ميل ، ولذا لا مفر مِن تأويل رواية الميل ببداية الأخذ بالرخصة والقصر بعد قطع ميل في خروجه مسافراً .
وعلى ضوء ما تَقدَّم مِن عدم سلامة حُجج وأدلة كل فريق فيما ذهب إليه مِن تحديد مسافة القصر يكون الأَوْلى عندي هو تحديد مسافة القصر بثلاثة فراسخ : 5544 × 3 = 632,16 كم أي ما يساوي اليوم سبعة عشر كيلو متراً تقريباً ذهاباً فقط[16]..
وحجتي في ذلك : ما رواه مسلم وأبو داود مِن حديث أنس رضي الله عنه قال :
" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ مسافة القصر في السفر إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلاَثَةِ أَمْيَال ـ أو فَرَاسِخَ ـ قَصَرَ الصَّلاَة " [17] ..
وعقّب عليه ابن حجر بأنه أصح حديث ورد في بيان ذلك ، وأَخرَجه .
وقد يُرَدّ الاستدلال بهذا الحديث : بأن المراد به هو المسافة التي يُبتدَأ منها القصر لا غاية السفر ..
فأجاب ابن حجر : بأن التأويل بعيد ، ولا يصح حمل الحديث عليه ؛ لأن البيهقي ذكر في روايته مِن هذا الوجه أن يحيى بن يزيد ـ راويه عن أنس ـ قال :" سألت أنساً عن قصر الصلاة ، وكنت أخرج إلى الكوفة ـ يعني من البصرة ـ فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع ، فقال أنس ... "
فذكر الحديث ، فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يُبتدَأ القصر منه ، ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة ، بل مجاوزة البلد الذي يخرج منها .
وردّه القرطبي : بأنه مشكوك فيه ، فلا يُحتج به في التحديد بثلاثة فراسخ ..
فالجواب : أن الثلاثة أميال مدرَجة فيها ، فيؤخَذ بالأكثر احتياطاً "[18] .
اعتراض عقلي معاصر :
وهذا الاعتراض يرِد اليوم من البعض ، مفاده : أن السفر في العصور السابقة كان فيه مشقة ، وكان في عصر الإسلام الأول على الدوابّ ، الأمر الذي يرهق المسافر ويتعبه ، ولذا خففَت عنه الشريعة ورخّصَت له الفطر والقصر ..
ولكن اليوم نرى عدم تَحقُّق تلك العلة ـ وهي المشقة ؛ لأن وسائل النقل في غاية
الراحة بما تحويه من خدمات تجعلها قريبةً من المسكن أو أفضل منه ؛ لأن البعض منا لا
يوجَد في بيته مُكَيِّف هواء وغيره من وسائل الترفيه والراحة ..
وإذا كان كذلك كان الأفضل هو عدم الأخذ بالرخصة ؛ لِقِصَر علتها وهي المشقة ، وعليه أن يفطر ويتم الصلاة .
الجواب عن هذا الاعتراض :
وهذا الاعتراض مردود عندي من وجهين :
الوجه الأول : أن العلة في القصر أو الفطر هي السفر وليست المشقة ، وإن كان السفر مهما كان فيه من راحة وترفيه فإنه لا يخلو من مشقة ..
ولو كانت العلة هي المشقة ـ كما تَوهَّم هؤلاء ـ لَتحققَت الرخصة حتى ولو لم يوجد سفر : كمن يعمل في عمل شاقّ أو حمل الأثقال بغير سفر ، فهؤلاء يجوز لهم حينئذٍ قصر الصلاة لتحقق المشقة ، ولَكان المسافر الذي لا يجد مشقةً ـ كما هو الحال اليوم في بعض وسائل النقل المريحة والمرفهة ـ لا يحق له القصر ، وكلاهما خلاف الأصل .
الوجه الثاني : أن النصوص الشرعية التي رخّصَت للمسافر القصر والفطر أتت مطلَقةً دون تحديد نوع السفر أو وسيلته ، وهذا مِن فضل الله تعالى ورحمته بعباده ؛ ليَتم للجميع الأخذ بالرخصة وقصر الصلاة في السفر سواء سافَر بدابة أو ناقلة أو طائرة أو سفينة ، وهي شاملة سفر البر والبحر والجو .
وكأني بفقهائنا المتقدمين يعاصروننا في تلك المحاورة ؛ فنرى النووي ـ رحمه الله ـ يقول :" ( والبحر ) في اعتبار المسافة المذكورة ( كالبر ) فيقصر فيه ، ( فلو قطع الأميال فيه في ساعة ) مثلاً لِشدة جري السفينة بالهواء أو نحوه ( قَصَر ) فيها ؛ لأنها مسافة صالحة للقصر ، فلا يؤثِّر قطعها في زمن يسير ( والله أعلم ) " [19].
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
1ـ أن هناك روايات أخرى عنهما بغير تلك المسافة ، 2ـ مخالفة كثير مِن الصحابة: كما ورد عن الصحابيَّيْن الجليليْن ، 3ـ أن الحديث الذي احتجوا به لا تقوم به الحجة ؛ لأن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير ، وهو متروك ، وقد نسبه النووي إلى الكذب